ولدت الأم ماري ألفونسين في مدينة القدس في 4 تشرين الأوّل 1843، في كنف عائلة مسيحية ورعة. كان والدها يدعى دانيل فرنسيس عيسى غطاس ووالدتها كترينا انطون يوسف. ينتمي آل غطاس في الأصل إلى بيت لحم مسقط رأسهم. إلا أنهم تشتتوا هنا وهناك، ويبدو أنهم غفلوا عن روابطهم العائلية الأولى ونجدهم اليوم في بيت لحم وبيت ساحور وبيت جالا، بعضهم من الروم الكاثوليك والآخر من الروم الأرثوذكس. ولا ندري في أي زمن انقسموا.

وكانت عائلة السيد دانيل تقطن القدس متميزة بالتقوى وممارسة الشعائر الدينية. وكانت ربة البيت تواظب على حضور القداس الإلهي كل يوم. أما زوجها فقد كان يطيب له أن يستقبل كل ليلة في بيته الأصدقاء والجيران لصلاة السبحة أمام تمثال السيدة العذراء، فيوقدوا لها الشموع ويحرقوا البخور… وكانت اعرق العائلات المسيحية في القدس تتبع هذه العادة الحميدة لتكريم السيدة العذراء.

وسميت الطفلة “سلطانة”. ومع ان اسمها يمت إلى ألقاب العذراء المجيدة بصلة وثيقة، إلا أن ذويها آثروا ان يضيفوا إليه في العماد اسم مريم، تيمناً بالعذراء سلطانة السماء والارض.

بعد سنوات من معارضة والدها الشديدة، في الثلاثين من حزيران عام 1860 أي عشية استقبالها لعامها السابع عشر، حظيت سلطانة بالإمتياز الفريد وهو الاتشاح بثوب رهبانية القديس يوسف في أقدَسِ بقعة في العالم على جبل الجلجلة. ووفقا للعادة المتبعة اعطيت الراهبة اسماً جديداً دلالة على بداية حياة جديدة. واصبحت تعرف بالأخت ماري الفونسين.

بقدر ما كانت الأخت ماري الفونسين متقدة الحماس في نشاطها الرسولي وشديدة الاكرام للبتول، كانت أيضاً هادئة الطباع، رصينة، ومتزنة العقل بشهادة كل من عرفها. اما عن تواضعها فحدث ولا حرج، ففي كل المناسبات كانت تتجنب الظهور ولا ترغب إلا في العمل الصامت ارضاء لوجه الله لا البشر.

أنعمت مريم العذراء عليها بظهورات كاشفة لها عن رغبتها في تأسيس رهبانية وطنيّة تحمل اسم رهبنة الوردية المقدسة، وعيّنت لها الأب يوسف طنّوس، من كهنة البطريركية اللاتينية، مرشداً ومدبراً. وبعد شدائد جمّة تحمّلتها القدّيسة ماري ألفونسين بشجاعة، نالت الإذن من الكرسي الرسولي للإنتقال من رهبانية مار يوسف والإنضمام إلى الرهبانية الجديدة، في عام 1880. واتشحت بثوب سيّدة الوردية في عام 1883.

أخفت القديسة سرّ الظهورات ولم يعرف عنها أحد سوى مرشدها. آثرت الصمت المقدّس على الكلام طيلة حياتها وإذ بها تحفظ لنا كلمات مدوّية الى ما بعد الممات؛ هي الطّوباويّة ماري ألفونسين، عاشت بصمت وخفاء، وحفظت في قلبها سرّا دفينًا طيلة 53 سنة بأمانة وكتمان كليّ، فلم تخبر أحدًا عدا مرشديها عن “هذه الأشياء الصعبة التي لا إسم لها” كما تسمّيها في المخطوط الأوّل. ولولا تدخّل العناية الإلهيّة من خلال مرشدها الخوري يوسف طنّوس الّذي أمرها بتدوين كلّ ما رأت وسمعت، لكنّا ربّما اليوم نجهل كلّ شيء عن اختبار روحي فائق الطبيعة وعن حقيقة تأسيس رهبانيّة الورديّة.

فمن ناحية كانت أوامر العذراء جازمة لا تحتمل الجدل، ولا بد من تنفيذها على عجل. ومن ناحية أخرى كان يبدو صعباً على الراهبة أن تقلب ظهر الِمجَن لرهبانية القديس يوسف وهي ملتزمة تجاهها بالنذور الثلاثة، وقد اولع بها قلبها حتى الهيام، وخدمتها خدمات جلى، بتفان مذهل ونجاح يشهد له القاصي والداني.

أما رؤساؤها فلم يكونوا على علم بأمر الإيحاءات الروحية والرسالة التي وكلتها العذراء إليها. فكيف لهم إذاً أن يُسَهِّلوا لها الطريق؟ إن كل خطوة في الاتجاه الجديد ستحسب والحالة هذه فراراًً من الخدمة وخيانة لا تغتفر. إلا أن أمانتها للعذراء كانت أقوى وامتن من كل العقبات، ولن يفصلها عن محبتها لا الموت ولا اتهامها بالخيانة والجحود. وقد قيل بحق: “الحب أقوى من الموت.” فإتَّخَذت القرار التالي: “عزمت حبا لمريم و إكراماً لها أن أطيع صوتها وأضحي بذاتي في رهبانية الوردية، واثقة بمعونة أمي ومعتقدة أنها تصحبني دائماً وتعضدني”.

خدمت الأخت ماري ألفونسين في العديد من الإرساليات (الرعايا). في يافا الناصرة (حيث أنقذت بصلاتها وسبحتها، بطريقة عجائبيّة، حياة طفلة سقطت في بئر ماء عميق) وبيت ساحور والسلط ونابلس والقدس والزبابدة وبيت لحم وعين كارم حيث توفيت في عام 1927.

وقبل وفاتها بأيام معدودة، اغتنمت الطوباوية ماري الفونسين فرصة انفرادها بالأم حنة فأسرت إليها قائلة: “بعد موتي، اذهبي إلى مكان كذا فتجدي دفترين بخط يدي. خذيهما وسلميهما إلى البطريرك برلسينا”. عثرت الأم حنة على الدفترين وكان أولهما المتضمن راوية الظهورات مختوما بالشمع الأحمر. فتناولتهما وسلمتهما للحال إلى المونسينيور مرقص، موصية إياه بأن يبلغ البطريرك الأمانة. وهكذا نفذت رغبة أختها الراحلة بحذافيرها.

ولجهل غبطة البطريرك باللغة العربية، طلب إلى الأم اغسطين ترجمة تلك الصفحات، ثم أمر بإعادة المخطوطين الأصليين إلى الرئيسة العامة. وما كادت الراهبات ولاسيما الأم حنة يطلعن على محتوياتهما حتى حصلت المفاجأة. لقد حان أخيراً للحقيقة أن تسطع كالشمس وتبدد الضباب الكثيف الذي كان يحجب شخصية الطوباوية ماري الفونسين، فقدر الجميع آنذاك فداحة الخطب الذي نزل بالجمعية لوفاة تلك الراهبة الوضيعة التي بقيت محتجبة عن عيونهم طيلة تلك المدة.

عن هذا التواضع، روت شاهدة عيان حادثة جرت للأم ماري ألفونسين في بيت لحم في عهد الأب ” ليسيكي” الذي اشتهر بقسوته عليها، وفحواها أنها كانت ذات يوم تصلي في الكنيسة وهي جالسة على الأرض كعادة عجائز بيت لحم. وهذا أمر يشهد ببساطتها وسذاجتها غير المتناهيتين. لم يكن الأمر محظوراً أو مستهجنا، إلا أن الكاهن ما كاد يراها حتى أوسعها لوماً وتوبيخاً على مرأى ومسمع من جميع الحاضرين. ثم أوعز إليها أن تنتقل إلى المقعد المجاور. فما كان منها إلا أن أذعنت للأمر دون أن تفتح فاها بكلمة واحدة. أما الراهبة التي كانت ترافقها فقالت متحدية: “لو كنت مكانك لعرفت ما أجيبه به. فكيف تصبرين على ملاحظته القاسية”، فردت عليها بهدوء ووداعة: “ألا تعلمين أن علينا أن نشتري الجنة بالتواضع؟”.

الإثبات الثاني على قداسة الأم ماري ألفونسين: معجزتان – على الأقل – تحققتا بعد وفاتها.

تشترط الكنيسة الكاثوليكية أن تتم بشفاعة المرشح معجزة للتطويب وأخرى لإعلان القداسة، بعد وفاته.

ولم تَحِد الأم ماري ألفونسين عن هذه القاعدة الكنسية الحكيمة، والتي تتأكد بموجبها الكنيسة من أن المرشح للتطويب أو اعلان القداسة هو حقّاً في حضرة الله وشركة تامّة مع الثالوث الأقدس وسائر القديسين.

1. المعجزة التي تمت بشفاعة الأم ماري ألفونسين واستحقت على اثرها أن ترفع إلى مصاف الطوباويين في عام 2009

بدأت القصة بزيارة راهبات الوردية لعائلة نتالي زنانيري، احدى طالبات مدرستهنّ في بيت حنينا، قضاء القدس، وكان ذلك يوم السبت، 24 أيار 2003. فصلين المسبحة الوردية، وبعد الصلاة تركت الراهبتان، الأخت دافيدا والأخت ماري بيير، كتابا عن حياة الأخت ماري ألفونسين مؤسّسة رهبنة الورديّة.

قرأت والدة الفتاة الكتاب على امتداد أربع ليال متتالية، وأحست بشعور غريب في داخلها خاصة بعد أن قرأت عن المعجزات اللواتي حصلن مع الأخت ماري ألفونسين، وعن ظهور العذراء مريم لها مرّات عديدة.

في ذات الأسبوع وتحديدا يوم الجمعة 30 أيار 2003، كانت والدة نتالي في البيت، تقوم ببعض الأعمال المنزليّة، وتفكر فيما قد قرأت. فانتابها فجأة شعور غريب بالخوف من حدوث كارثة. خاصة وأنها لا تتواجد في البيت عند ساعات ما بعد الظهيرة وحتى ساعات متأخرة من الليل. فهي تعمل في مجال الصحافة وعملها يتطلّب منها ذلك. فطلبت من العذراء مريم أن تحمي لها أولادها خاصة عند غيابها وطلبت منها بشكل خاص أن تفعل ما كانت تعمله مع الأخت ماري ألفونسين.

في عصر ذلك اليوم، ترددت السيّدة زنانيري من الذهاب إلى عملها. لكنها وبعد ساعة من التأخير خرجت. في حوالي الساعة السادسة مساء، وخلال تواجدها في العمل، اتصل زوجها ليسألها إن كانت ابنتهما قد تلقّت تطعيماً مضاداً “للتيتانوس”. فسألته: “ماذا حصل؟” قال: “لا تقلقي! لقد جُرحت جرحاً بسيطاً”. لم ترتح الأم لجواب زوجها وبعد نصف ساعة اتصلت بهاتفه النقّال فأجاب ابنها. سألته:” أين والدك؟” فقال:” لقد ذهب لينظف البيت قبل وصولك لأن هذا ما حصل…”.

“…في ذلك اليوم، كان عيد ميلاد ابنة الجيران. وقرروا الإحتفال في البستان حيث التقى أصدقاؤها وصديقاتها. وبعد أن غنّوا لها وأطفأت الشموع، قالت ابنتي: “اشعر إن الأرض تتشقق!” فسخروا منها وبدأوا بالقفز فوق الأرضية التي كانوا يقفون فوقها. وفجأة، انشقّت الأرض بفتحة قطرها ثلاثة أمتار، حيث وقعت إحدى عشر بنتاً. فبدأ الصراخ وعملية الإنقاذ. وكانت ابنتها نتالي آخر من انتُشل من الحفرة. فقد كانت الأرض التي وقفوا عليها سقفا للصرف الصحي عمقه خمسة أمتار.

عندها أسرعت عائدة إلى البيت حيث كانت ابنتها قد عادت من المركز الصحي بعد أن تلقّت العلاج الّلازم. أما السيّدة زنانيري، وعندما رأت الحفرة الكبيرة وما حصل، لم تصدّق كيف أنّ الجميع نجا دون إصابات أليمة. وبعد أن صعدَت إلى المنزل، أخبرت زوجها وأولادها بما شعرت به ظهيرة ذلك اليوم. وقالت لهم: “الفضل يعود إلى ذلك اليوم حين صلّينا المسبحة والكتاب الذي قرأته عن حياة الأخت ماري الفونسين. فقد كان طلبي من العذراء أن تفعل معي كما فعلت مع الأخت ماري ألفونسين. والسّيدة سلطانة الوردية المقدسة سمِعت ندائي وأنقذت الأولاد . تماما كما فعلت في يافا الناصرة وفي القدس، عندما أنقذت البنات اللاتي وقعن في البئر واستجابت لتضرعات الأخت ماري الفونسين.” وأردفت قائلة: “أكتب ما حصل لي بكل صدق. فأنا مؤمنة إيمانا قوياً بأن ما حصل كان أُعجوبة ! والفضل في ذلك يعود إلى السُّبحةِ الورديّة”.

بناء على شهادة السيد خالد عمرو صاحب البيت فإن عمق الحفرة 4 امتار، وعرضها 4 امتار وطولها 5 امتار. ويبعد الماء عن سطح الحفرة 30 سم. وهذا يعني أن عمق الحفرة الباقي والمليء بالمياه العادمة هو 70،3 متراً. المياه العادمة كانت على درجة عالية من اللزوجة، وعدد الساقطين في الحفرة حوالي 11 شخصا. أوزان الكبار منهم تتراوح ما بين 60- 70 كغم بينما تتراوح أوزان الصغار ما بين 25- 45 كغم. بقيت نتالي زنانيري مع الطفلة ياسمين تحت الماء ما لا يقل عن 5- 7 دقائق!

2. المعجزة التي تمت بشفاعة الأم ماري ألفونسين واستحقت على اثرها أن ترفع إلى مصاف القديسين في عام 2015

حدثت هذه المعجزة مع السيّد اميل منير سليم الياس، من مواليد 27 أيار 1977، والساكن في كفر كنا. كان يعمل، قبل يومين من موعد تطويب الأم ألفونسين، في عمله المعتاد، كمهندس مساحة، في قياس الخرائط على الطرق الخارجية، في منطقة بيت دجن في حولون. وفي لحظة معينة، احتاج أن يرفعَ القائم، وهو من أدوات قياس الخرائط، إلى الأعلى حوالي خمسة أمتار. لم يعلم السيد إلياس أن القائم كان موصولاً بتيار كهربائي، كما أنه لم يكن لابساً أية قفازات، فصعقه تيار كهربائي بقوة 30 إلى 40 ألف فولت. كانت الصعقة قوية وقاتلة، مما أدى إلى سقوط السيد إلياس على الأرض، متشنجاً وعيونه مفتوحة وبلا نفس مع توقف في نبضات القلب. ويروي السيّد إلياس أن آخر شيء يذكره هو رفعه للقائم، وأنه لا يذكر ما حدث له بعد ذلك. كما أنه لا يذكر الشعور بأي ألم حينها. بقي السيد الياس غائباً عن الوعي مدّة يومين، وبحسب التقرير الطبي، فإنه لمّا وصل إلى المستشفى، كان بلا نفس ولا نبض للقلب، كما وأن لون جسمه كان يميل إلى الزراق، وهذه احدى علامات موت الجسد.

لم يكن السيّد الياس يعلم الكثير عن الأم ألفونسين، ولم يطلب منها شيئاً، لكنه علم، عندما أفاق من غيبوبته بعد يومين، أن كثيرين كانوا يلجأون إلى الطوباوية ماري ألفونسين لتدخلها، طالبين شفاءه وخلاصه من الموت شبه المؤكد. بدى واضحاً أن شفاءه هذا كان معجزة، فالجميع كان يعلم بخطورة وضعه، وأن ما حصل كان أمراً غير طبيعي.

فيا أيتها الأم ماري ألفونسين صلّي لأجلنا!

(عن موقع بطريركية اللاتين)