د. شارلي يعقوب أبو سعدى

قام المتشددون في سوريا والعراق في الأعوام القليلة الماضية بفرض القوانين الشرعية على السكان المسيحيين الذين يعيشون في مناطق سيطرتهم، وأطلقوا عليهم لقب "أهل الذمة". هذا التصرف قابله استهجان المسيحيين في العالم وخصوصاً في وطننا العربي إذ نعتبر أنفسنا جزء لا يتجزأ من هذا الوطن الكبير. فإما أن نكون أهل ذمة أو نكون مواطنين كغيرنا.

خطوة عظيمة قام بها شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب على طريق تجديد الخطاب الديني الإسلامي، وذلك خلال حديثه الأسبوعي الذي أذيع يوم الجمعة الثالث عشر من كانون الثاني الماضي على شاشة الفضائية المصرية. شيخنا الجليل أطال الحديث عن مفهوم أهل الذمة والجزية والعلاقات الإسلامية المسيحية على ضوء القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي القديم والحديث. وأشار شيخ الأزهر إلى أن خروج المسلمين خارج الجزيرة العربية ولقائهم بالمسيحيين في مصر وبلاد الشام دعا الحكام المسلمين إلى إيجاد شكل معين من الوفاق مع غير المسلمين والذي يضمن نفس الحقوق والواجبات لكنه يرفع عن غير المسلمين حق الدفاع عن الدولة، وكان هذا مقابل دفعهم للجزية.

ومصطلح "أهل الذمة" أُطلق في زمن الرسول الكريم على الأشخاص غير المسلمين الذي يعيشون داخل حدود الدولة الإسلامية، أما أول عهد ذمة فكان بين الرسول وأهل نجران. وأوضح الطيب أن تبعيات هذا المفهوم الفقهي على المسلمين هو الحماية والمسؤولية والأمانة والضمانة تجاه غير المسلمين الذين يعيشون بينهم. وقال الطيب أن الدولة الإسلامية لا تُجبر أحداً على الدخول في الإسلام. وبما أن الخلافة الإسلامية قد انتهت فإن هذا المصطلح لم يعد له وجود على الاطلاق، فمفهوم الدولة قد تغيّر في القرون القليلة الماضية لوجود أنظمة سياسية جديدة ودول حديثة، منوهاً ومؤكداً أن الإسلام اليوم يتبنى مفهوم المواطنة. وشدّد الطيب على أن الأزهر لا يستخدم مصطلح أهل الذمة ولا يصف به شركاء الوطن، موضحاً أيضاً أن الجزية كانت قد فُرضت على المسيحيين كما أن الزكاة فُرضت في نفس الوقت على المسلمين، لكن الجزية كانت أقل تكلفة من الزكاة نفسها.

شيخ الأزهر رد ّ على هؤلاء المتطرفين الذين يستغلون الدين لمصالحهم، فينادون بإقصاء وإنكار وتكفير الآخرين، مؤكداً أن مصطلح "أهل الذمة" يرجع إلى حقبة تاريخية تختلف عن تلك التي نعيشها اليوم. فلا يجوز اقتلاع هذا المفهوم من سياقه التاريخي المنتهي أصلاً. وعليه، فلا يستطيع أي تيار إسلامي سياسي اليوم إثارة الفتنة بين أبناء الوطن الواحد وإعادة تطبيق واستخدام مصطلح كان يُستخدم في زمن الحروب ضد استعمار الفرنجة والتتر. وقال أن الكثير من الفتاوى كانت قد ظهرت إبان تلك الفترة المظلمة، وجميعها جاءت كرد فعل طبيعي على الظروف الاستعمارية القاسية التي عاشها المسلمون آنذاك.

وبالتالي فإن المسيحيين اليوم ليسوا ذميين، أما مصطلح "أقلية" فلا يُعبر عن روح الإسلام بحسب الطيب. والمسيحي هو مواطنٌ بكل معنى الكلمة كأخيه المسلم ولن يدفع الجزية من جديد. وأفاد الشيخ الطيب أن مفهوم المواطنة يقضي بالمساواة في الحقوق والواجبات من دون تفرقة وخصوصاً أمام دولة القانون، فالمواطنة العادلة والصحيحة هي الأنسب لاستقرار المجتمعات الحديثة وتطورها، فهي بحسب الطيب لا تتوقف عند اختلاف دين أو مذهب.

إذا ما رجعنا إلى الكتاب المقدس فإننا نجد أن المواطنة ليست بغريبة عنه. فالقديس بولس كان قد استخدم هذه الفكرة ليمنع جلده من دون محاكمة (أعمال الرسل 22، 28). وظل ّ هذا المبدأ راسخاً في أذهان الناس والدول حتى يومنا هذا ليكون الدعامة الأولى والأساسية للديمقراطية أي حكم الناس. فلا يجوز إنكار هذا الحق لأي شخص كان حتى ولو يختلف عني في الدين. وإذا ما نظرنا إلى المستقبل، إلى مستقبل الأمة العربية بمسلميها ومسيحييها فكيف نكون ونعيش سواسيةً في وطننا العربي رغم اختلافاتنا؟ وما هي معيقات تحقيق مبدأ المواطنة ودولة القانون والعدالة الاجتماعية في ظل ما يسمّى بالربيع العربي؟ وما هو مستقبل العلاقات الإسلامية المسيحية والحروب الدينية والطائفية؟

مما لا شك فيه أن البيت والمدرسة والجامع والكنيسة تُعتبر الأساس في سياسة التثقيف والتنوير والتطور الإنساني والمجتمعي السليم والصحيح والصحي. وما قاله شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب يجب أن يكون مجرد بداية لحقبة جديدة. زمن نعمل فيه جميعنا بجد ّ ودراية كاملة لنزرع فيه كل ما يلزم للقيام بواجبنا المقدس تجاه مجتمع صالح ومتعدد نستطيع العيش فيه كاخوة بكل معنى الكلمة، فكلنا في النهاية ننتمي لعائلة واحدة. إننا كمسيحيين ننتظر المزيد من الأزهر الشريف، مزيداً من العمل التوعوي وتجديد الخطاب الديني وتعديل المناهج الدراسية وهذا ليس بالمستحيل. إن إنكار مبدأ وروح المواطنة على العربي المسيحي هو جريمة ضد الخالق والإنسانية، فنحن أصحاب وطن وحق وأرض نحبها وننتمي لها. كنا وسنبقى معاً.