د. شارلي يعقوب أبو سعدى

نلاحظ في هذه العقود الأخيرة تغيّر مفهوم عيد ميلاد المخلص وبكل أسف في كل مكان من عالمنا. فأضحى الميلاد فرصةً تجاريةً للترويج والربح، فتغاضينا عن المعنى الروحي والهدف من التجسد الإلهي. ومن جهة ثانية فإن مفهوم الميلاد كعيد وطني يجب أن يتعامل معه الناس بدقة أفضل. فالعيد يجب أن يكون فترة زمنية نُظهر فيها وجه الله الموجود بيننا لجميع الناس، وهذا قد يتم من خلال الترانيم والشجرة وسانتا كلوز. لكن لا يجوز أن تطغى هذه الشكليات على الروحانيات، فتفريغ الروح من العيد يعني تجريده من سبب كينونته.

أؤمن كمسيحي أن الله سيد الكل والقادر على كل شيئ وهو موجود بيننا وفينا ليحيينا. ذلك هو معنى إشارة الصليب عندما نضع يدنا على منطقة القلب للدلالة على وجود الله فينا دائماً من خلال روحه القدوس. والدور من بعد ذلك يقع علينا، فهل نزعج الله بسلبياتنا ونُبعده عنا، أم نتمسك به لنعلنه مخلصاً ونعيش كمسيحيين بكل معنى الكلمة؟

وُلد المسيح بالجسد قبل ألفي عام، واليوم نحن نذكر تلك الواقعة التي أعادت الرباط ما بين الله والإنسان. وكما قال القديس إيرنيوس الذي توفي في العام 200 تقريباً: "تجسد الإله ليصير الإنسان إلها"، أي أن الله تجسد ليفتح لنا أبواب الفردوس من جديد.

ميلاد المخلص كما روته الأناجيل المقدسة هو ليس مجرد قصة تاريخية كُتبت حتى نتذكرها فقط أو لنضع الشجرة في بيوتنا وفي الساحات العامة. إن الميلاد يذكّرنا أن المسيح القائم من بين الأموات ما يزال معنا. إنه عمانوئيل أي "الله معنا"، فعلينا العيش وفق ذلك أي أن  نكون مرآةً للمسيح على الأرض.

إن الأوضاع التي يعيشها مشرقنا ووطننا العربي لا تبشّر بالخير. وما يُنقذ المسيحية المشرقية في هذه الظروف الصعبة هو أن نرجع إلى الجذور، أي أن نعيش وفقاً للوصايا والروح التي جاء بها الكتاب المقدس. والرجوع إلى الجذور لا يعني أن نعيش كما عاش أسلافنا، ولا يعني أيضاً التعصب بل الانفتاح على الجميع. يجب أن ننظر للأمور بطريقة مختلفة وإيجابية وواعية. لقد جاءت الساعة لكي نجلس مع بعضنا البعض لنصلي ونفكر بانفتاح ونطرح الأمور على الطاولة لنتداولها على أمل حل بعض من مشاكلنا، ولنترك الحلول المعقدة للروح القدس، وكل شيئ يأتي في أوانه وليس في أواننا.

المشاكل كثيرة، والحلول قليلة، لكن من أهمها أن نعيش كمسيحيين بكل معنى الكلمة، وهذا فقط ما قد يُنقذنا ويُعطينا أملٌ ورجاء بمستقبل أفضل لأبناءنا. عبادة الله من خلال الصلاة الفردية والجماعية وقراءة الكتاب المقدس ومحبة القريب ومساعدة الغريب والمظلوم والفقير والمريض وغيرها من أعمال الرحمة. كل هذا يجب أن نقوم به بهدف التشبه بالمسيح الذي ولد في بيت فقير، والكمال هو لله وحده، وهذا يعني أن نكون شهوداً له. لا فائدة في الهرب، مع أن الهرب قد يكون حلاً للبعض. أما وضع رأسنا داخل الرمال فلا يُجدي نفعاً. الاستحياء بإيماننا لا ينفعنا والخوف من داعش لا يفيدنا، ومُجاراة الناس لن تربحنا شيئاً على المدى البعيد. أما الخجل بمسيحيتنا على جميع الأصعدة فهو ما نراه اليوم في حياتنا اليومية، ذلك لأن البعض منّا يعيش بمنطق "الأقلية العددية". مثل هؤلاء قد يخافون أيضاً على مصالحهم فيسعون إلى الذوبان تحت إطار الأكثرية لأن ذلك يعطيهم بعضاً من القوة والراحة والسلطان. هؤلاء يخطئون لمسيحيتهم ولعروبتهم لأنهم يُسببون كسراً وشرخاً في لوحة الفسيفساء الطبيعية والمتعددة الألوان. لقد خلقنا الله مختلفين، فحتى أصابع اليد الواحدة مختلفة. فلنعمل على احترام إرادة الله وعلى ترسيخ روح المحبة والوفاق والتعددية في كل مكان لنكون شهوداً حقيقيين للمسيح ولعروبتنا ولوطننا.

هذا ما نتمناه اليوم في عيد الميلاد هذا، أن يكون العيد فرصةً لنا لإعادة النظر بعلاقتنا مع الله ومع اخوتنا أياً كانوا. فالميلاد يذكّرنا بأن الله موجود بيننا ولن يتركنا وأنه سيتدخل بطرقه الخاصة لصالح عبيده الذين لا ينكرونه ولا يستحون به. نحن هنا مسلمين ومسيحيين لأن الله يريد ذلك، وما علينا اليوم إلاّ أن نعيش وفقاً لهذه الإرادة محترمين ومحافظين على بعضنا البعض.