د. شارلي يعقوب أبو سعدى

انقضت سنة من عمرنا وسنة من التاريخ، وذهبت سنة 2015 بأحزانها وأفراحها وما أكثر أتراحها. عامٌ كان كسابقه مليئاً بالأحداث، عامٌ عجيبٌ وغريب على الوطن العربي، سنةٌ غامضة على الشرق الأوسط، صعبة وشرسة على الشعب الفلسطيني ومريرة على المسيحيين في العراق وسوريا. نطلب من الله أن يجعل عامنا الجديد عاماً مباركاً وميموناً، عاما ً نرضي فيه الله بإيماننا وأعمالنا، عاماً نصمت فيه نحن قليلاً لنسمح ولنجعل الله يتكلم فينا ومن خلالنا ويعمل بدلاً عنا، عاماً تسكت فيه أصوات البنادق لتحل مكانها هديل حمائم السلام فوق مهد المسيح لتسبح وتنشد: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".

العام الجديد يبشر بالإثارة والضبابية على الصعيدين المحلي والشرق أوسطي، ولكن عن أي نوع من الإثارة نتحدث؟ لست بمنجم هنا ولست من محبي التكهن وإضاعة الوقت على تلك الأمور. بل آمل وأتمنى أن يكون عامنا المقبل أفضل من سابقه. لكن لنكن واقعيين قليلاً، إذ إني أخال أن الأغلبية الساحقة من المواطنين هم متشائمون من المستقبل على أساس أن لا شيئ جديد وإيجابي سيظهر في الأفق القريب، فلا أمل في المستقبل بتاتاً! إن ما يجري من حولنا لا يبشر للفلسطينيين بأي شيء إيجابي ومبتكر والحلول السياسية يبدو أنها بعيدة المنال في ظل التعنت الإسرائيلي، فلا أمل لنا ولأولادنا هنا في الأرض المقدسة. فما العمل؟ وأي مستقبل تستطيع القيادة السياسية والدينية الفلسطينية أن تقدم للشعب؟ وهل يكمن الحل في الاستسلام للأمر الواقع ومجاراة الاحتلال يوماً بعد يوم وبرؤوس منخفضة؟

 غير أننا وفي ظل هذه الظروف الحرجة والعسيرة، فإننا مدعوون لأن نتحلى بالرجاء. والرجاء هو الإيمان بالله الخالق والقادر والمسيطر على كل شيئ. إنه النظر بإيجابية إلى المستقبل لأن الله سيد العالم والزمان. إيماننا يدعونا إلى رؤية الله وما يريده منا ونحن نعيش في خضم الظروف الصعبة، لأننا مطالبون بالتغيير. التغيير في أنفسنا وذواتنا أولاً لنجعل من حياتنا أداة خير ووئام. وفي نفس الوقت فالله يدعونا إلى العمل الجاد والدؤوب بهدف تجديد المجتمع وتحسين ظروف حياة الإنسان بشكل عام. ومما لا شك فيه أنه وبالرغم من كل الضباب الذي من حولنا فإننا وإن أمعنا النظر فإننا نستطيع رؤية بعض علامات الرجاء هنا وهناك.

يطل علينا العام الجديد والكنيسة الفلسطينية ستتجدد في قمة هرمها. فمن المتوقع أن يقوم قداسة البابا فرنسيس بتعيين بطريرك جديد للكنيسة اللاتينية خلفاً للبطريرك فؤاد طوال الذي بلغ السن القانونية للتقاعد. وفي نفس الوقت فمن المتوقع انتخاب مطرانين جديدين لكل من كنيسة السريان الكاثوليك والروم الملكيين الكاثوليك وذلك لنفس السبب. ومما لا شك فيه أن الكنيسة عندما تتجدد في قمة هرمها فإن هذا سيؤثر على القاعدة. وكما نقول فإن التغيير "مش غلط". إننا نتطلع لهذا التغيير لعل وعسى أنه سيكون تغييراً كالذي جرى في الفاتيكان. ذلك التغيير الذي جاء بالبابا المنتفض فرنسيس الذي قَلَب وما زال يقلب كل شيئ رأساً على عقب في سبيل التركيز على خير الإنسان والبشرية والعودة إلى طبيعة الكنيسة التي تتميز بالبساطة والوداعة. كل الشكر والتقدير والثناء للبطريرك طوال وللأساقفة الزريعي وملكي الذين قدموا كل شيئ في سبيل خدمة الناس. ونحن ننتظر همة واجتهاد رؤساء الكنائس جميعاً في قيادة انتفاضة روحية داخلية تقودنا إلى علاقة أكثر جدية وقريبة مع الله ومع أخينا الإنسان، وإلى النظر إلى المستقبل بتفائل والتحرر من الأخطاء وترسبات الماضي التي وللأسف لا نستطيع نسيانها والتي تشكل عائقاً لتطور الكنيسة والمسيحيين على حد سواء. فهل سيقوم البطاركة والأساقفة الجدد مع إخوتهم باقي البطاركة والأساقفة الكرام بقيادة المركب نحو انتفاضة روحية وإيمانية شجاعة وجديدة وخلاقة؟ وهل نضجت فكرة عقد سينودس جديد تشارك فيه جميع الكنائس المحلية بلا استثناء؟ وكيف ستقوم الكنيسة بالتعامل مع الواقع المحلي والإقليمي المتغير والجديد؟ وماذا ستقول القيادة الكنسية والسياسية لفئة لا بأس بها من الشباب الخائف الذي يسعى للهجرة والهروب إلى الخارج؟

مما لا شك فيه أن المشهد أمامنا ضبابي وغير مفهوم بالكامل. فما مستقبل الكنيسة والمسيحيين في قطاع غزة؟ في الواقع ما استفزني في الأسابيع الماضية أن الاحتلال قام بإعطاء تصاريح لحوالي 800 مسيحي من سكان غزة للقدوم إلى الضفة الغربية خلال موسم الأعياد الميلادية هذا. كما سيسمحون بسفر خمسين مسيحياً من غزة إلى الخارج عبر جسر الملك حسين. المشكلة أن عدد المسيحيين هناك لا يتجاوز 1300 شخص، وبحسب المعادلة الرياضية فهذا يعني أن حوالي 65% من مسيحيي غزة سيكون بمقدورهم مغادرة القطاع خلال هذه الأعياد. والسؤال هنا: "كم منهم سيرجع إلى حي الرمال في أواخر كانون الثاني هذا؟". إن الوضع مقلقٌ للغاية إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن أول من بشر في غزة كان الرسول فيلبس تلميذ القديس بولس. كما أن كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس كانت قد شُيدت في النصف الأول من القرن الرابع الميلادي، وأنه خرج العشرات من القديسين من تلك البقعة الصغيرة على مثال القديس إيلاريون الغزي (291-371). ومن جهة أخرى، فمتى سنشاهد رجال دين محليين هناك، مع كل احترامي ومحبتي للذين يخدمون حالياً في غزة من سيادة المطران ألكسيوس إلى الأب ماريو الذان ضحيا وما يزالان يضحيان في خدمة المواطن في غزة هاشم. ما أريد قوله أن الكنيسة في قطاع غزة ستختفي وهي في اندثار. كيف حدث ويحدث هذا وماذا نعمل لوقف هذا النزيف؟ وكيف ستواجه الكنيسة والسلطة الفلسطينية وحماس هذا التغيير الديمغرافي الخطير الذي لن يصب في مصلحة أية جهة؟

وإذا أردنا أن نتطرق إلى الصعوبات المتوقعة للعام الجديد فلا بد من ذكر المشكلة الاقتصادية التي يعاني منها المسيحيون في فلسطين. فالسياحة تراجعت في النصف الثاني من العام 2015 بسبب الأحداث السياسية والاحتلال. وأقرت وزارة السياحة والآثار أن خسائر قطاع السياحة بلغت قرابة 500 مليون شيكل، علماً بأن السياحة تشكل ما نسبته 15 % من مصادر الدخل القومي الفلسطيني، وهذا يؤثر على الوضع الإقتصادي خصوصاً للعائلات المسيحية في محافظة بيت لحم. في الماضي كان السوق الخارجي والتصدير يشكلان مصدر رزق مهم للكثير من العائلات التلحمية، لكن هذا المصدر يشح رويداً رويداً نظراً للضائقة المالية العالمية وبسبب الاعتماد على الاستيراد من الأسواق الصينية. وهنا فلا بد للجميع من التحرك فوراً من أجل خلق فرص جديدة وخلاقة للسوق السياحي المحلي وتشجيع الصناعات التقليدية وتسويقها محلياً وعالمياً لضمان استدامتها بالرغم من الحروب المختلفة والاحتلال ونقصان عدد الحجاج والسياح الوافدين.

إن الضائقة المالية العالمية قد أثرت سلباً خلال الأعوام القليلة الماضية على العديد من الكنائس والمؤسسات المسيحية المحلية منها والدولية بسبب شحة التمويل الخارجي، وبسبب توجه المانحين لدعم سوريا ولاجئيها في لبنان والأردن وتركيا... أعرف أن ميزانيات المؤسسات المسيحية قد تضائلت في السنوات الأخيرة مما يعني أنها لن تكون قادرة على مساعدة الشعب الفلسطيني كالماضي. ومما لا شك فيه أن المدارس المسيحية قد بدأت تتأثر بشكل مباشر بسبب الركود الاقتصادي، والعديد منها قامت برفع الأقساط المدرسية مما دعا الأهالي إلى الاعتراض ولكن يبدو أنه "ما في اليد حيلة". على مدراء المدارس والمعنيين دراسة الوضع وتحليله واتخاذ اجراءات عاجلة تهدف إلى تقليل العبء المادي عليها وإلا فإنها ستغلق أبوابها لا محالة. من جهة أخرى فعلى السلطة الوطنية تحمل مسؤولياتها بشكل أكبر نحو حوالي ستين مدرسة مسيحية تخرج كل عام ما يضاهي 20% من مجموع الطلاب الفلسطينيين.

أما أُم المشاكل خلال الفترة المقبلة فتتعلق بما يحصل داخل كنيسة الروم الأرثوذكس المقدسية. إن ما يستجد من أحداث قد أضر بالمسيحيين بغض النظر عن المسببات والنتائج، فالجميع باعتقادي خسر بلا استثناء. وإذا ما أردنا حلاً جذرياً للمسألة فلا بد من بدء حوار صريح وبناء ما بين الأطراف. حوار ينتج عنه خطة عمل مشتركة وحلول واضحة يتحمل الجميع من خلالها مسؤولياته في الحفاظ على النفوس والممتلكات.

وأخيراً فإني أريد أن أذكر أن العام 2016 سيشهد اجتماعاً كبيراً للأساقفة الأرثوذكس من كل انحاء العالم. إنه وبلا شك سينودس تاريخي يأتي في وقت صعب على الجميع. فالكنائس الأرثوذكسية في أوروبا تشهد حالة من إعادة التكوين والنضوج والازدهار بعد أن عانت تحت الحكم الشيوعي في القرن الماضي. أما الكنيسة الارثوذكسية في سوريا فهي تحت النيران بالرغم من الانتعاش الروحي الذي يعم سوريا والعراق ولبنان بشكل عام بسبب الاضطهادات وبالرغم منها. لكن ما يهمني هنا أنه من المتوقع أن يتم مناقشة عرض قداسة البابا فرنسيس للكنائس الأرثوذكسية حول توحيد تاريخ عيد القيامة. فهل سيكون عيد القيامة هذا العام آخر عيد نعيده في تاريخين مختلفين؟