د. شارلي يعقوب أبو سعدى
تعتمد السياسة الإسرائيلية على أسلوب وفلسفة فرض الأمر الواقع الذي يقول أن الاحتلال للأرض العربية الفلسطينية ليس هو إلاّ أمرٌ طبيعي على الأرض وفي الوجدان، وحق إلهي ومشروع للشعب اليهودي. وبالتالي فإن "المشكلة" مع الفلسطينيين يجب أن تُحل على هذا الأساس. نتنياهو يسعى وبشتى الطرق والوسائل إلى تكريس هذا الواقع الأليم حتى ينسانا العالم من جهة، وحتى ننسى نحن الفلسطينيين مع مرور الزمن حقوقنا في الأرض والهوية من الجهة الثانية.
وحتى لا ننسى، وحتى يفهم المواطن الفلسطيني الخطوط العريضة في كيفية التعامل مع الإسرائيليين، أصدرت لجنة العدل والسلام التابعة لمجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة في الرابع عشر من شهر أيار الماضي وثيقة هامة تتناول مسألة التطبيع. ومن الطبيعي أن تنبّه الكنيسة الناس هنا وفي العالم إلى مأساة يعيشها الناس، وبها الموت والكراهية حاضران بين شعبين في كل يوم. وصرح البطريرك ميشيل صباح أن إصدار الوثيقة ليس مرتبطا بأي حدث معيّن، إنما جاء من خلال تدارس اللجنة المذكورة للوضع الإنساني ولوضع حرب بدأت ولم تنته، نعيشه في هذه الأرض المقدسة.
تُعرّف الوثيقة التطبيع على أنه إقامة علاقات مع إسرائيل وأجهزتها ومواطنيها "كما لو أن" الوضع الراهن كان طبيعيا، أي تجاهل حالة الحرب والاحتلال والتمييز العنصري. وتضيف الوثيقة أننا يجب أن لا ننسى أن الصراع بين الطرفين ما يزال قائماً، ولهذا الصراع أثر كبير في الحياة العامة للمواطنين من كلا الجانبين. التطبيع هو نسيان وجهل لما يجري. والهدف من الوثيقة هو: انتبه لما يجري، وشارك في مسؤولية الشفاء المطلوبة للإنسان في الأرض المقدسة، وفي إزالة الظلم الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني الذي فُرض عليه الاحتلال.
وترى الوثيقة أن هناك أمورا تقتضيها الحياة اليومية فلا بد التعامل مع السلطات القائمة. ولكن مع هذا لا يجوز نسيان الجرح النازف والمسؤولية العامة لشفائه. غير أن الكنيسة وفي نفس الوقت يجب ألّا تنسى حقيقة الواقع الصعب المحيط بها. تعي الكنيسة الفلسطينية أنها يجب أن تساهم في إيجاد حل للصراع وتبديله بالسلام العادل. وواجبها كذلك تذكير الكنيسة الجامعة بأن الوضع الذي يعيشه الناس في الأرض المقدسة ليس طبيعياً، وعلى الجميع مد يد المساعدة لإنهاء الظلم والاستبداد القائم حتى يومنا هذا. كل حوار وكل علاقة مودة مع كل طرف يجب أن تسهم في تبديل الحرب بالسلام، والظلم بالعدل.
وتضيف الوثيقة أنه من واجبنا العمل على تشجيع الحوار مع الجميع حتى مع الإسرائيليين، أفراداً ومنظمات. أمّا القاعدة الذهبية لعدم الوقوع في خطر "النسيان والجهل" هو التأكد من أن أطراف الحوار واعية للواقع وتعترف بضرورة إنهاء الاحتلال والتمييز العنصري. أمّا هدف هذا الحوار فهو وضع استراتيجية بنّاءة للتعاون لإصلاح وتغيير هذا الوضع السلبي والمظلم على الجميع. ولهذا فعلى الكنيسة أن تتعرف على أولئك الأفراد والمجموعات الذين لا يساهمون في إبقاء الوضع على ما هو، على أساس أن الوضع ليس طبيعياً، والظلم يجب إصلاحه والاحتلال ينبغي إزالته. فلا يجوز أبداً تجاهل الجرح المفتوح، بل العمل على شفائه.
الوثيقة قالت كلمة حق. الكنيسة تقول الحق وتنقل الحقيقة، لأنها مهتمة لكل إنسان، ولها صفة نبوية تدلُّ على الظلم وتندّد به. وفي خضم الوضع السياسي الحالي فعلى الفلسطينيين عموما "ألا يتعودوا على الظلم"، ليعيشوا حياتهم اليومية فقط مهما توفر منها. الجميع يجب أن يتحلوا بالفطنة والحكمة ليفهموا ويستوعبوا ما يجري على أرض الواقع وأن يسعوا إلى ما هو أفضل، من خلال التشاور والعمل معاً وإلى تطوير علاقات مبنية على الاحترام مع الجميع بهدف صنع سلام عادل ونهائيّ.