د. شارلي يعقوب أبو سعدى

يُعتبر المطران جبرائيل أبو سعدى أول مطران فلسطيني يتقلد منصباً كنسياً رفيعاً في العصر الحديث، وهو باني نهضة كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك في فلسطين، كما ساهم في الارتقاء الروحي والثقافي والأدبي والعمراني لفلسطين ولسكانها. إنه الأديب والمعلم والخطيب والمناضل والسياسي وباني الكنائس والمدارس والمؤسسات التي أرادها لتكون منبعاً للإيمان والرجاء والتسامح والأخلاق والمحبة في أرض المحبة فلسطين. فاعتبر وبكل جدارة الشخصية الفلسطينية المسيحية الأقوى والمؤثرة خلال القرن الماضي. إن أعماله كثيرة وجبارة وهي تخفي سهراً دؤوباً ويقظة وفطنة ومحبة وتعباً لا يوصف.

لقد قام مطراننا جبرائيل ببناء خمسة كنائس شامخة في بيت ساحور وبيت لحم ونابلس والطيبة ورام الله. كما شيد ثلاث مدارس في رام الله والقدس وبيت ساحور. وأسس العديد من المؤسسات الاجتماعية والثقافية في فلسطين. لقد كان المطران جبرائيل مثقفاُ وأديباً وخطيباً ومعلماً، فكتب وخطب حول اللاهوت والثقافة والأدب العربي والفلسفة والتاريخ، وله العديد من الكتب والروايات والمقالات حول هذه المواضيع. وقد ذكر اسمه وأعماله الكتابية والأدبية في موسوعة الأدباء الفلسطينيين.

لقد أراد المطران أبي سعدى أن يصنع من الفلسطينيين رجالاً وسيدات مثقفين ومؤمنين وقياديين وواعين لما يجري من حولهم. لقد ربى أجيالاً من الشباب والشابات المتحلين بالفضيلة والعلم، وذلك بهدف المساهمة الفاعلة في النهوض بالوطن والمجتمع والعائلة والكنيسة. وما أحوجنا اليوم إلى كهنة وأساقفة وسياسيين مثله، يبنون الحجارة والإنسان في نفس الوقت، يُبشرون بمستقبل أفضل ويعملون بكل إخلاص وتفان في سبيل نجاح وخدمة الآخر.

وهذه دعوة لنا جميعاً لإحياء وقراءة تراثنا العربي الفلسطيني الإسلامي المسيحي والتعمق فيه. هذا التراث الذي كتبه وخطه أجدادنا والذي ما زال ينبض في عروقنا. فلا خير منكَ إن لم تقرأ، وإن قرأت فافهم، وإن فهمت فطبق واعمل بما قرأت. علينا أن نطلب العلم والثقافة من أجل المساهمة في تقدم وازدهار المجتمع، عبر الخوض فيه من خلال مشاركتنا في كنائسنا وجوامعنا وجامعاتنا ومؤسساتنا المختلفة. فعلى شباب اليوم ورجالات الغد ألا يخافوا من خوض معترك الحياة وأن لا يفقدوا الأمل في مستقبل أفضل هم سيكونون من صناعه إن شاء الله.

لقد استلم المطران جبرائيل زمام الأمور القيادية الكنسية بعد نكسة عام 1948، لكنه لم ييأس. بل صمم وجد وكثف نشاطه واستمر في العمل الدؤوب. إننا ما زلنا نمر في نفس تلك الظروف بسبب الاحتلال والأوضاع الاقتصادية الصعبة. إن سيرة حياة اسقفنا جبرائيل تشجعنا اليوم على عدم الخنوع والاستسلام للظروف بل السعي الدائم والثابت نحو تحقيق النجاح بالرغم من كل المعيقات التي قد نصادفها.

سيطرت المحبة على حياته ككاهن ومن ثم كمطران، فكان ذا قلب كبير. كان الأخ والصديق الوفي للكثيرين، وكان بيته البسيط والفقير مفتوحاً لكل من كان يطرق بابه من مسلمين ومسيحيين. كان كريماً جداً، ساعد الفقير والمريض والمحتاج ولم يتوان في خدمة المرضى والمهمشين. وكان يردد دوماً: "أحسن إلى الفقير حتى يحسن الله إليك". واليوم ما يزال هؤلاء بيننا. فهذه دعوة لنا لكي لا ننسى من هم بحاجة إلينا.

لقد كان المطران أبي سعدى قائداً وطنياً وسياسياً، وما أحوج فلسطين اليوم إلى مثل هؤلاء. قالها: "لا للاحتلال"، وتعرض لعدة محاولات اغتيال. دافع عن الوطن في كل أسفاره وخطبه ومقالاته، فكان خير سفير لفلسطين وللأرض المقدسة. هب لنصرة الجرحى والمعتقلين ونجح في إطلاق سراح الكثيرين منهم. كما أنزل من على حبل المشنقة العشرات من الشباب الوطنيين إبان الحكمين الإنجيليزي والأردني. وتقديراً لوطنيته ولمواقفه الشجاعة فقد عُين عضواً في أول مجلس وطني فلسطيني وكان ذلك في العام 1964.

لقد أحب مطراننا مسقط رأسه بيت ساحور، وخصها بساعات وأيام ومقالات وكلمات كثيرة. لقد ساهم في تعليم الكثيرين من رجالات ونساء بيت ساحور. كما وظف العشرات منهم في حقل التعليم وفي الجيش العربي الأردني. أراد بيت ساحور بلدة مثقفة ورائدة من كل جوانبها. فبنى الكنيسة فالدير فالمدرسة ومستوصف صغير، وأسس نادي الشباب الثقافي وجمعية مار ميخائيل الخيرية. كما وأراد أن يُدفن في البلدة بحسب وصيته التي ذكر فيها: "أريد أن أدفن في بيت ساحور وفي كنيستها ليبقى قبري شاهداً لأهل بلدتي... لكي يبقى أهلي لربهم أمينين ولكنيستهم مخلصين".

هذه دعوة لنا كفلسطينيين بأن نكون ناجحين وصامدين ومثابرين ومواظبين على خدمة عائلاتنا ووطننا فلسطين على مثال المطران جبرائيل أبي سعدى. فمثل هؤلاء لم يموتوا، لأن الحجارة ما تزال تنطق بكلماتهم، والكنائس شاهدة على شخصهم وأعمالهم، مثلهم يعيشون حياة في الخفاء، في النعيم الأبدي، لكنهم بيننا موجودون.