د. شارلي يعقوب أبو سعدى
بدأت السنة الجديدة تاركة خلفها أعباء العام الماضي ومن ضمنها ما يسمى بالربيع العربي الذي ميزته الفوضى غير الخلاّقة في كل مكان. وبعد أن كان شتاءً قارساً بدأت ملامح هذا الربيع في التغيّر، بداية من دمشق. لكن الله أعلم بما تخفيه لنا السياسات العالمية المستبدة بمنطقتنا.
من الواضح أن مستقبل الأمة العربية أصبح مبهماً وضبابياً. يقال: "الناس على دين ملوكها"، وكنائسنا العربية المشرقية مثل بلادنا مهدَّدة ومضطربة. وتاريخياً فقد تم هضم حقوق المسيحيين العرب هنا وهناك، ويرجع ذلك إلى أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية مرتبطة بالاحتلال والاستعمار الأجنبي. إن الهجرة وسياسة الاستعمار والحروب الدائرة في شرقنا ستؤدي إلى قيام جماعات أو دويلات صغيرة هنا وهناك، ضمن مجتمعات أحادية غريبة وبعيدة عن التنوع والتعددية. لكن هذا الشرق الأوسط الجديد والذي يريده الاستعمار سيدور يوما ما حول نفسه وسيتآكل من تلقاء نفسه وسيموت موتاً بطيئاً. لكننا ما زلنا نقول إنه وبالرغم مما يحدث من قتل ودمار وتهجير فإن المسيحيين العرب سيبقون جزء لا يتجزأ من النسيج التاريخي والاجتماعي والسياسي للشرق الأوسط الذي حافظ وسيحافظ على التنوع والتعددية بشتى أشكالها القومية والدينية واللغوية. فما عسانا أن نعمل حتى يسقط الاستعمار؟ الهروب والخنوع والاستسلام أم أن نبقى ونكون؟ أن نكون عربا مسيحيين حقيقيين فنسهم في بناء مجتمعاتنا وتحريرها واستقرارها.
أعتقد أن من أهم النتائج السلبية لما يجري على الساحة العربية هو أن المواطن العربي المسيحي اليوم يشعر بأنه غير موجود. البطريرك ميشيل صباح أكد أننا يجب أن لا نخاف من الكم والأعداد بل يجب التركيز على طاقات الروح فينا، فنكون شبابا فاعلين ومفكرين ناشطين وخلاّقين. نتحلى بالجرأة ونقبل أن عددنا قليل كالملح، والوطن لن يكون وطنا من دون هذا الملح القليل. لكن في نفس الوقت علينا أن نستمر في أن نكون، وفي بناء مجتمعنا العربي الإسلامي المسيحي من دون التفكير في الهجرة والتقوقع حول الذات واللامبالاة.
نرتعب لاننا نخشى من نوعية المستقبل الذي ينتظرنا فنتقوقع على أنفسنا. نخاف فنغلق الباب وننزوي. نتمحور حول ذاتنا أي نوظف طاقاتنا وجهودنا لصالح أنفسنا وننسى الآخرين. نفزع، فنتشبث بالماضي فترانا نكتب ونتغنى بالتآخي الإسلامي المسيحي والقرون الوسطى العربية الإسلامية المسيحية المشرقية المتوهجة. كان دور المسيحيين على مر التاريخ مشرفاً جداً، فقد ساهمنا في الحفاظ على اللغة العربية وساهمنا في تطور الحضارة العربية الإسلامية. كما كان أجدادنا من أوائل من نادوا بالحرية والعدالة في إطار دولة أساسها العقل والعقلانية والانفتاح على الجميع والتعددية. وكان أجدادنا أول من انتبه وتنبّه من مخاطر الهجرة اليهودية ومطامعها في فلسطين. نعم، كنا وكنا، وهذا كان، أي فعل ماضي. على تاريخنا وفكرنا ألاّ يتوقف هناك في الماضي فنحجب عنا المستقبل وتُحجم عجلة الزمن عن الدوران، فيصيبنا اليأس والاحباط.
يجب أن نكون عقلانيين وواقعيين لنقول إن العلاقات الإسلامية المسيحية تشهد العديد من الخلل في شرقنا العربي. مؤتمرات المجاملة لا تكفي، والحوار الحقيقي يجب أن يكون على كافة المستويات والأصعدة. ولا بد هنا من التصفيق لمراكز السبيل واللقاء الرائدين في مجال الحوار والتواصل بين الإسلام والمسيحية.
كنا نكتب ونقول ونجادل الجدال الحسن، وسنستمر في الكتابة والتواصل مع الجميع، وهذا هو دورنا الرئيسي في هذه المرحلة الصعبة من تاريخنا. وسيظل المسيحي العربي المشرقي في وطنه مصلياً وداعياً وعاملاً من أجل إحلال السلام وإرساء روح المواطنة والعقلانية والمساواة والعدالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
على المواطن العربي المسيحي أن يخرج من صومعته. علينا أن نقرأ ونكتب ونفكر وندرس ونخطط، وأن نضع الاستراتيجيات بهدف إنقاذ الوطن مع شركائنا. وفي نفس الوقت فمن المهم الابتعاد عن التعصب والطائفية والعاطفة في علاقاتنا بعضنا مع بعض. وما يحصل يؤكد أننا يجب أن نسرع في عملية دمج المسيحي في المجتمع حتى يشعر بأنه مواطن له كافة الحقوق وعليه تقديم واجباته كاملة للوطن. وهذا يقع على عاتق الجميع من سياسيين ورجال الدين وعامة الشعب. سنعيش إن أردنا العيش في شرقنا، وسنموت إن تركنا أنفسنا نموت، وتركنا مقدرات بلادنا في أيدي من يستبد بها.